الكمبيوتر والشِّعْر العربي .. يصدر الدكتور مستجير في فهمه للعروض عن إيمان بما حدث من توحّد الشاعر والفنان والرياضي في موسيقى الشعر العربي، وهو ينطلق من فهمه الرحب للفنون، ومن عقليته الرياضية العلمية القادرة على استيعاب الاختلاف المنظم، والبحث فيه عن عوامل النظام أو التشابه والاختلاف.. وثمة نظام رياضي يكمن خلف ما تُحبه الأذن العربية من أوزان، نظام تخرج عنه كل البحور المهملة والمصطنعة، بل إنه يقول: متى يكون التحوير العروضي (الزحاف) فيه ثقيلًا، ومتى يكون خفيفًا مُستساغًا؟ نظام منطقي بلغة الأرقام والحاسوب فيه يتحكم رقم تفعيلة العروض في تحديد البحر والوزن؛ بكل سهولة بدلًا من التقطيع العروضي وصعوبته!
هذه النظرية الجديدة قامت على أكتاف الحاسوب، ثم تطورت أكثر فجمعت بين علوم العروض والرياضيات والحاسوب والبيولوجيا في نطاق واحد، حتى أصبحت تُمثل صياغة عصرية لعلم العروض، تخاطب العقل والقلب معًا.
يضرب «مستجير» مثلًا على صحة نظريته؛ مُستشهدًا بمُوشّح الأعمى التُّطيلي الأندلسي، الذي يقول فيه:
أنت اقتراحي لا قرّب اللهُ اللواحـي
من شاء أن يقول فإني لستُ أسمـع
خضعتُ في هواك وما كنتُ لأخضع
وهو الموشح الذي قال عنه ابن سناء الملك «إنه مُضطرب الوزن، مُهلهل النسج، مُفكّك النظم» فهو توهّم أن تفعيلات الغصن فيه هي «مستفعلن فعولن مفاعيلن فعولن». وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه د. سيد غازي، عندما تصور أنّ هذا الموشّح «مُوَلّد من الرّجَز». لكن د. مستجير يُصحّح هذه الأخطاء العروضية من السابقين والمعاصرين؛ عن طريق نظريته الرياضية الجديدة «إذْ سنجد أن لكل سطر فيه نفس الدليل الرقمي، لبحر غير خليلي، لن نختلف في تفعيلاته.. بحر ليس مُوَلّدًا عن الرّجَز، وإنما عن الدوبيت».
وعلى نسق التجديد، اكتشف مستجير أن «الخليل لمْ يبتكر بحوره؛ وإنما ابتكرتها – على مدى التاريخ – الأذن العربية التي عشقت الشعر والموسيقى، وارتاحت منه لأبحرٍ معينة…» و«لوْ لمْ تكن لبحور الخليل قواعد تنتظمها – رياضية – دون غيرها، ترتبط بما تُحبه الأذن العربية لأمكن دائمًا الإضافة إليها»!
الدليـل الرقمي
يبني مستجير نظريته على الأدلة الرقمية للبحور؛ تسهيلًا لمتذوق الشعر ودارسه وناقده؛ فيقول: «الدليل الرقمي للبحر هو توالي أرقام الأسباب المُمَيّزة في الشطر التام منه، فإذا كان الشطر مُؤلّفًا من التفعيلة الرباعية الثانية، فالثالثة، فالثانية، DSCF7052_opt.jpeg أي من: فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن، كان الدليل الرقمي للبحر هو(2/7/10). وبناءً على هذا التقسيم والتنظير يُعرّف مستجير البحور كما يلي حسب نظريته الجديدة:
بحر الهَزَج: وهو ينتج عن تكرار التفعيلة الرباعية الأولى «مفاعيلن» ثلاث مرات في الشطر، ودليل تفاعيله إذن هو رقم (1) ثلاث مرات، ودليله الرقمي (1/5/9) يؤيده قول الشاعر طاهر أبوفاشا:
فلا تعتب على الدنيا ودعها
لمن يبكي عليها وهي تعدو
وبحر الرّمَل: وهو ينشأ من تكرار التفعيلة الرباعية الثانية «فاعلاتن» ثلاث مرات في الشطر، ودليل تفاعيله (2/2/2) ودليله الرقمي هو (2/6/10) ومنه قول الشاعر:
ما عرفتُ الحُزنَ يجتاحُ مدينة
رغم ما تلقاه من حسنٍ وزينة
وبحر الرّجز: وهو ينشأ عن تكرار التفعيلة رقم (3) «مستفعلن» ثلاث مرات في الشطر، ودليل تفاعيله (3/3/3) ودليله الرقمي (3/7/11) ومنه قول إيليا أبي ماضي:
إن لاحَ طيفٌ قُلتُ يا عينُ انظري
أو رنّ صوتٌ قُلتُ يا أُذنُ اسمعي
بحر المتقارب: وهو ينتج عن تكرار التفعيلة الثلاثية الأولى أربع مرات في الشطر، ودليل تفاعيله (1/1/1/1) ودليله الرقمي (1/4/7/10) ومنه قول الشاعر:
لمن تُرسلُ الشّدوَ يا صاحبي؟
جَفاكَ الذي أنتَ تشدو لهُ
بحر المتدارك: وتفعيلته «فاعلن» أربع مرات في الشطر، ودليل تفاعيله (2/2/2/2) ودليله الرقمي (2/5/8/11) ومنه هذا البيت:
جَفّت السُّحبُ فوقَ الغدير القديم
والشُّجَيراتُ أغفت على ضِفّته
بحـر شـوقي الجديد: إن د. مستجير أطلق على بحر جديد اسم بحر شوقي نسبة إلى أمير الشعراء أحمد بك شوقي «1868-1932م» وهو يعتمد في ذلك على كتاب «موسيقى الشعر» للدكتور إبراهيم أنيس، الذي لاحظ أن هذا البحر تكرّر كثيرًا في مسرحية شوقي «مجنون ليلى» الشهيرة. وهو بحر يحصل نتيجة تكرار التفعيلة «مفعول» أربع مرات في الشطر، ودليل تفاعيله(3/3/3/3) ودليله الرقمي(3/6/9/12). وهو كثير الورود في الموشحات. وهكذا تسير بقية البحور وأدلتها الرقمية على النمط الجديد للدكتور أحمد مستجير.
البحور المختلطة
يشرح مستجير بذكاء طريقة تكوين البحور الشعرية الممزوجة (المختلطة) وهي طريقة محددة للخلط بين التفاعيل، وقد اختصر التفاعيل الستين وفق المنطق الرياضي إلى تسعٍ فقط بالمنطق السمعي التوقيعي. ويقول مستجير موضحًا: «وتبعًا لهذه القاعدة لا تختلط التفعيلة (1) مفاعيلن إلا بالتفعيلة (2) فاعلاتن فقط، ولا تختلط التفعيلة (4) إلا بالتفعيلة (3) فقط، أمّا التفعيلة (2) فيمكن أن تختلط بالتفعيلة (1) أو التفعيلة (3)، كما يمكن للتفعيلة (3) مستفعلن أن تختلط بالتفعيلة (2) أو بالتفعيلة (4). وعلى هذا يحدث بحران فقط عن المزج في بحر الهَزَج، وبحر واحد عن الخلط في بحر الدوبيت، بينما يمكن استنباط ثلاثة أبحر خليطة من كل من بَحرَي الرّمَل والرّجَز؛ لتكتمل لنا البحور التسعة المختلطة».
تعد نظرية مستجير موافقة لعلوم العصر وتقنياته، وطبيعة موسيقى الشعر العربي وأنغامه الساحرة؛ بلا تكلف ولا تصنّع، تماشيًا مع استخدام المعارف العلمية التطبيقية في ميدان الأوزان؛ ليعيد للعروض حيويته وعافيته؛ ليُقبل عليه أبناء الألفية الجديدة، ولكن بمنظور المنطق والعقل والرياضيات والحاسوب، كما يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي- الناقد الأدبي البارز.
صلاح حسن رشيد