بشرى شاكر
طفل موهوب .. بين كلمة Intelligentia التي عنى بها الفيلسوف «شيرون» كلمة «نحن» وتغييرها إلى Intelligence، ونسبها إلى الذهن أوالعقل أوالحكمة وترجمتها عربيا باسم ذكاء، نجد مفاهيم كثيرة للذكاء، تغيرت حسب العصور، فمن قبل كان العلماء وحتى عصر قريب جدا، يعتبرون الذكاء ملكات، ونظرية الملكات تعني أن العقل يتألف من عدد من القوى المستقلة التي تؤدي إلى نشوء نشاطات معينة، مثل الإرادة أوالانتباه إلى غير ذلك، ثم تغير هذا المفهوم لمفهوم فراسة الدماغ أوالقدرة الموحدة.
المفهوم الحديث للذكاء يقسمه إلى شطرين: جانب معرفي وآخر وجداني، وهذه هي نظرية الفيلسوف الإنجليزي «هربرت سبنسر»، ويقصد بالجانب المعرفي كل العمليات التحليلية المكتسبة التي تساعد الإنسان على التكيف مع المتغيرات الجديدة في بيئته، أما الجانب الوجداني فهو الذكاء الفطري الذي يصقل بالمعرفة وهو أيضا ما اعتمده علم النفس المعرفي الذي يفترض أن التفكير هو سيرورة في معالجة المعلومات، لذا وجب استثمار المعارف ومعالجة المعلومات في الذاكرة واللغة.
وهذا التفسير هو الأقرب إلى قوله تعالى {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، ومن هنا نتبين أنه فعلا هناك ذكاء وجداني أو ما نسميه بالبصيرة، وهو ذكاء فطري موروث يصقل بالمعرفة، لذلك نرجح أن هذا التفسير الأخير هو الأقرب للصواب والله اعلم.
وتعريف الذكاء مازال مثار نقاش إلى وقتنا الراهن، وقد أصبح الآن هاجس قياس الذكاء يشغل معظم قادة حركة القياس العقلي، ومقياس الذكاء هو الذي نسميه ب «QI».
وبما أننا نتحدث عن التربية، فما يهمنا في هذه التناولة هم الأطفال المبدعون أو الذين يمتلكون قدرات عقلية أعلى نسبيا من أصدقائهم، ويتميزون بمهارات كبيرة، والعديد من العلماء المعاصرين باتوا يحثون المربين والآباء على حد سواء على محاولة الاكتشاف المبكر لمواهب وقدرات الأطفال.
ويعرف الأخصائيون الأطفال الموهوبين على أنهم أذكياء أو عباقرة أو نوابغ وهي في حد ذاتها عبارات ثناء وإطراء على ما يقومون به ويبهرون به الكبار.
وبعض الدراسات تفيد أن القدرة البدنية للطفل الموهوب تكون قوية مقارنة مع الأطفال العاديين، وهنا نرى تمييزا بين الطفلين، فهناك طفل خارق وهناك طفل عادي وهذا لا يتناسب مع تعاليم الدين الذي أظهر لنا أن الذكاء الوجداني يولد مع الشخص ويصقل بالذكاء المعرفي وبالتربية، وقد تكون نسبة ذكاء طفل أعلى من آخر -وهذه أمور وراثية في الكثير من الأحيان- ولكن يمكن لهذا الأخير أن يضاهيه في النجاح إن وجد البيئة السليمة لذلك، كما يمكن للأول أن يتحول إلى طفل فاشل وذلك أيضا حسب البيئة التي نشأ فيها، فالزيادة أو النقصان هي وليدة المحيط العام.
وقد لا يحصل الطفل النابغة على درجات عالية في جميع المواد الدراسية وإنما قد يركز على مادة دون أخرى وقد يكون فاشلا في مواد أخرى أوفي أشياء يراها الآخرون بسيطة، ومن هنا، نرى أنه من الأجدر أن نتحدث عن الموهبة بدل أن نقسم الأطفال إلى خارقين وعاديين.
لأن الطفل العادي قد يكون خارقا في مجال والخارق قد يفشل فيما يراه الآخرون سهلا وفي المتناول.
وقد عرف سبيرمان Spearman التفكير الإبداعي للطفل بأنه القدرة على إدراك العلاقة بين شيئين بطريقة ما ينبثق عنها ظهور شيء ثالث مخالف لشكليهما الأولين.
وتذهب مدرسة الجشتالت Gestalt في علم النفس إلى أن المبدع الموهوب، هو ذلك الفرد القادر على إعادة دمج المعارف والأفكار بشكل جديد.
فهذا يعرف الطفل الذكي نسبة لفكره بحيث إنه يتحدث عن التركيز على شيئين ليخرج شيئا ثالثا والثاني يركز على نتيجة الذكاء أي الإبداع.
ويرى بعض الأخصائيين ومن بينهم «عثمان نجاتي» بأن فئة العباقرة هم ذوو الذكاء المرتفع التي تصل نسبتهم إلى 145 درجة ويمثلون نسبة واحد في الألف في الإحصاءات السكانية العامة أما باقي الأذكياء والذين تتراوح نسبة ذكائهم بين 130 و145 درجة فهم يمثلون حوالي 2% عالميا ويتميزون بالتفوق في التحصيل الدراسي!
وقد اعترض على هذا الطرح العديد من الخبراء، فكيف لنا أن نعلم أنهم يشكلون نسبة 1بالمائة أو 2بالمائة؟! وفي معظم بلداننا العربية لا نهتم بعد بإبراز مواهب الأطفال ولا نميز بين من لديه مواهب وإبداع وبين غيره، كما أن الأبحاث والدلائل لا تدل على أن المتفوقين في التحصيل العلمي فقط هم الأكثر ذكاء بل إن التاريخ يحدثنا عن عباقرة ومخترعين لم يتفوقوا أبدا في دراساتهم بل وطردوا من مدارسهم ومع ذلك اخترعوا وأبدعوا، فمن الجلي إذن أن توقفنا عند علامات الامتحانات وحصر النجاح والتفوق في مدى ارتفاعها هو ما جعلنا نمر قرب العديد من المواهب دون أن نعرف أنه كان يمكننا أن نصنع منها عقولا نيرة ومبدعة وهو ما جعلنا لا نمنح الفرصة لأشخاص يمكنهم أن يغيروا الكثير، وفي المقابل كم من شخص نجح في التحصيل العلمي وفقا لمعطيات ورقية ولم يستطع أن يتميز في حياته العملية أبدا، وهذا لا يعني أننا ندعو إلى عدم ضرورة التحصيل العلمي بل نشدد عليه ولكن مع مرافقته بفراسة الأخصائيين التربويين من مدرسين وموجهين وغيرهم وكذلك الآباء، لكيلا نقف فقط عند نقاط ضعف أطفالنا وإنما نبحث عن نقاط تفوقهم والأشياء التي يحبون الإبداع فيها.
ف»توماس أديسون» وصف بالبلادة والتخلف العقلي وطرد من المدرسة ولكنه استمر يبدع إلى أن صار أحد أكبر المخترعين في العالم، فهو من اخترع المصباح والفونوغراف وغيرهما من الاختراعات التي أفادت العالم وما زالت.. وقد كان تحصيله العلمي سيئا للغاية.. ولولا مساعدة والدته واقتناعها بأنه فعلا يمكنه القيام بشيء ما، ربما كنا سننتظر لسنين أخرى حتى نتعرف على شكل المصباح.
أحيانا يكون التحصيل العلمي السيئ نتيجة عدم فهم الطفل وعدم تركيزه وربما شغبه ولكن لا يمكننا أن نجزم أبدا أن هناك طفل يحب الكسل أو يريد أن يكون غبيا، فأي طفل ما بين الطفولة الثانية والثالثة يحس بغريزية بالرغبة في المنافسة والتفوق على غيره من الزملاء، بل نجد ذلك حتى لدى البالغين وهي طبيعة بشرية صرفة وإن كانت حدتها أكثر لدى الأطفال لأنهم لا يتمكنون من عقلنة الأشياء التي يكتسبها الكبار بفضل الخبرة والسن، ففي الكثير من الأحيان حينما نرى طفلا لا يتمتع بقدرات عالية ولا بعلامات جيدة فإننا نصفه بالغباء وكفى.. وقد تكون عدم مشاركته داخل الفصل والتزامه الصمت وعدم رغبته في الأجوبة على الأسئلة المطروحة لها دافع ثان لا علاقة له بالغباء أبدا.
فالقليل جدا من المدرسين من يفكرون بمحاولة دمج هذا الطفل الصامت، في حين أن اعتزاله الغير ونتائجه المتدنية قد تكون نتيجة موهبة! وقد يستغرب البعض هذا الحديث ولكن يمكننا أن نشرح ذلك بكون ذلك الطفل الموهوب والذي يفكر بسرعة أكبر من الآخرين، يحس بالملل والضجر وهو ينتظر إجابة الآخرين على أسئلة تبدو له سهلة جدا، وغالبا ما نجد هذا الطفل يترك درسه ولا يراجعه ولكنه يحمل كتب أقربائه الأكبر سنا، وإذا سئل في مناهجها يجيب وبتفوق!
لقد عمدت بعض البلدان الغربية إلى دراسة مثل هاته الحالات ووجدت كحل لهؤلاء أن يدمجوا في الفصول المتقدمة حتى إن الطفل يستطيع أن يصل إلى الجامعة بفضل قدراته في سن صغير جدا، ولكن تبين أن هذا الحل ليس حلا ناجحا أبدا فالطفل يظل طفلا، وجلوسه مع من هم ليسوا بسنه لفترات طويلة، وحرمانه من اللعب الضروري في عمره هذا، لتفريغ شحناته، ومن العيش حياة مرحلية عادية قد يهدد سلامة توازنه النفسي وبالتالي قد يتمرد على هذا الوضع ويعود للانطوائية أو يفشل بعد سنين نجاح قليلة لأنه يستنفد طاقته العقلية والجسمانية سريعا جدا.. وربما الحل الأنجع والذي لجأت إليه دولة عربية وليست غربية وهي جمهورية مصر العربية في إحدى الحالات، هو أن يستمر الطفل في الدراسة مع أقرانه وفي نفس الوقت نمنحه فرصة للإبداع في موهبته، فهكذا ينمو نمو طفل طبيعي وفي نفس الوقت يحسن بالدرس والابتكار موهبته ويمشي على الوتيرة التي تناسب عقله وتفكيره.
والطفل محمود وائل، نبغ في مجال أنظمة الحاسوب واعترف في برنامج تلفزيوني أنه لا يحب العلوم إطلاقا، فهنا يتبين لنا عمليا صحة ما جئنا به من قبل، فلو أن مدرس العلوم وصف محمود وائل بالغباء لكانت نهاية رحلته.. وربما لاستمر وحده مثلما فعل توماس إديسون.. وهنا أيضا نتبين صحة أن لكل طفل مجال إبداع خاصا قد لا يعفيه من الفشل في مجالات أخرى، ولذلك علينا البحث في مجالات الإبداع، لا أن نصم بالغباء والتخلف كل من فشل في مادة معينة أوصمت ولم يشارك داخل الفصل الدراسي.
وإن كان العلم الحديث قد بدأ في التفكير بأهمية البحث عن الإبداع والخلق والنبوغ لدى الطفل وذلك بعد إخفاقات تربوية عديدة كادت تصيب العالم بفشل علمي جراء اعتبار بعض الموهوبين متخلفين عقليا لأن المربي يرى فقط الصورة التي أمامه ولا يبحث عن أبعادها، مثلما حصل مع «توماس أديسون» بطرده من المدرسة لأنه اعتبر غبيا لصعوبات في مادة الرياضيات و«أينشتاين»، صاحب نظرية النسبية بسبب صعوبات في القراءة وغيرهما كثر، إلا أنه وقبل هذه التواريخ بكثير وفي عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان هناك أطفال نبغوا في ميادين عديدة ومنحت لهم الفرصة لإبداء ذلك ومن بينهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، الذي أسلم وهو في العاشرة واشتهر بحكمته وشجاعته وكان رفيقا للنبي عليه الصلاة والسلام رغم صغر سنه وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه ، من كتاب الوحي الذين كتبوا القرآن الكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعد صبيا صغيرا، وكان أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم بل وكاتم أسراره أيضا وأكثر الناس حفظا لسيرته النبوية وهو بعد في سن العاشرة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع المواهب الصغيرة ويوجهها للطريق الصحيح فنشأ منهم خلفاء وقادة وعلماء.