مشاكل زواج القاصرات .. تعتري الزواج أحكام الشريعة التكليفية الخمسة، وقد يصل حكمه إلى الوجوب في حق من قدر عليه، وتاقت نفسه إليه وخشي العنت (الزنا)، لأن صيانة النفس وحفظها من الوقوع في الحرام واجب، ولا يتم ذلك إلا بالزواج. وقد اتفق الفقهاء على مشروعية الزواج، حيث قال الله عزوجل:وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) النور: 32
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج » رواه البخاري.
قال القرطبي، رحمه الله: «المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج، لا يختلف في وجوب التزويج عليه. أما من كان تائقا له وقادرا عليه، ولكنه يأمن من اقتراف ما حرم الله عليه فإن الزواج في حقه مستحب».
ولا شك أن تزويج الفتاة الصغيرة القاصرة التي لا تقوى على الزواج يعد من الممارسات والعادات الخاطئة التي يجب التصدي لها، ولقد أوضح الإسام المقاصد التي لابد أن يقع الزواج في إطارها، ففي الزواج منفعة يجب أن تحصل دون وقوع ضرر أكبر منها، ولا شك أن محاولة الرجل الاستمتاع بوطء طفلة قاصر أو التحرش بها هو أمر تأنف منه النفس البشرية السوية، فكيف يرضاه الإسلام دين الرحمة والسماحة.
وفي الزواج تؤسس الأسرة وهي الحاضنة الطبيعة لتخريج الرجال والنساء الصالحين، لذلك لابد من وجود القيم القادر على رعاية هذه الأسرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع
وهو مسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها »… فهذا الزواج الذي يجعل فتاة قاصر مسؤولة عن بيت وأسرة وزوج، وهي في الواقع قد لا تحسن التصرف في القيام بأمر نفسها ويترتب على ذلك تقصير ومفاسد، يسأل عنه أولا وليها الذي فرط فيها، وزوجها الذي قام بهذه المهزلة، ثم كل من رضي وشارك في ذلك من مأذون وشهود.
- إقرأ أيضاً: أسئلة نسائية
أحكام زواج الصغيرة
ومن الأمور التي يجب أن تدرك هو أن الأحكام التي تحيط بزواج الصغيرة عقدا ودخولا إنما هي خاصة بيئتها, وظروفها وأعرافها الاجتماعية في كل عصر ومصر، فما كان سائغا في زمان قد يكون منكرا
في غيره، فقديما كانت البيئات الطبيعية، خاصة الصحراوية، قادرة على إنبات الأجسام بصحة وعافية، مع سرعة نموها واكتمالها في سنوات قليلة، فيبلغ الولد مبلغ الرجال وتبلغ البنت مبلغ النساء في سن مبكرة.
أضف إلى ذلك ما عرف قديما من حفظ العهد وكمال المروءة والنخوة والرجولة، فلم يكن يعقل أن يقدم رجل على الزواج بقاصر لأجل متعة، ولا يتصور أن رجا يزوج فتاته الصغيرة لأجل المال، فكانت الحقوق محفوظة، واختيارات الزواج إنما هي للأكفاء وأساسها النخوة والمروءة، ولا يدخل الزوج بزوجته إلا إذا بلغت مبلغ النساء في جسدها وعقلها.
اختلاف الزمان
أما في مجتمعاتنا المعاصرة الآن، لا يتوافر جل ذلك، فقد قلت النخوة والمروءة عند كثير من الآباء، وربما باع الأب عرضه لأجل عرض زائل من الدنيا، وانتشرت الدناءة والخسة بين الناس، فقد يعمد بعض الأثرياء إلى
استغلال حاجة الفقراء فيلجأون إلى الزواج من بناتهم الفقيرات في عملية أقل ما توصف بأنها «اتجار بالبشر»، وغالبا ما تنتهي هذه العلاقة الزوجية بعد فترة وجيزة عندما يقضي هذا الثري وطره من الفتاة الصغيرة، فتصير مطلقة، أو امرأة معيلة وهي في الواقع لا تزال في سن الطفولة.
أيضا فقد ضعفت الحالة البدنية والصحية وأصبح الخلق في نقصان، فالفتاة بنت العشرين الآن ربما تشبه فتاة في عمر الحادية عشر قديما، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : لا تنكح الأيم حتى تستأمر, ولا تنكح البكر حتى
تستأذن قالوا: يا رسول الله, وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت، متفق عليه.
فدل الحديث على أنه لا بد من أخذ إذن البنت البكر عند الزواج، وهذا يتطلب أن تكون بالغة راشدة، حتى يتسنى أخذ إذنها ومشورتها، وهو ما لا ينطبق على القاصر الصغيرة.
استدلال باطل
وقد درج المتاجرون بهذا النوع من الزواج على الاستدلال بزواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة، وهذا الاستدلال هو كلمة حق أريد بها باطل، فالنبي عقد على أم المؤمنين السيدة عائشة – رضي الله عنها – ولم يدخل بها
إلا حينما بلغت مبلغ النساء وأصبحت تطيق الحياة الزوجية حسب طبائع وعادات الناس آنذاك، فهناك فرق بين العقد والدخول؛ فالأول: عملية إجراء العقد والتي يوضح فيها الفقهاء أنه لا يجوز للرجل أن يعاشر هذه الصغيرة حتى تبلغ وتستطيع تحمل تبعات هذه العلاقة. والثاني: الدخول بالزوجة ومعاشرتها معاشرة الأزواج وتحملها تبعات هذا الزواج ويعبر عنه أيضا بلفظ البناء.
وقد جعل الفقهاء الاستطاعة شرط التمكين فلا يجوز لرجل أن يدخل بصغيرة ما لم تستطع تحمل تبعات هذه العلاقة الزوجية. يقول ابن عابدين والرملي وغيرهما: «وقد صرحوا عندنا بأن الزوجة إذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء لا تسلم إلى الزوج حتى تطيق».
تقييد المباح
لقد اتفق الفقهاء على وجوب طاعة ولي الأمر في تقييد المباح إذا تعينت فيه المصلحة أو غلبت، عملا بالقاعدة الفقهية التي تقول: «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة »؛ فلولي الأمر سلطة سن قوانن يمنع فيها
الناس مما كان مباحا لهم في وقت سابق، فالفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – منع رجوع الرجل لامرأته إذا طلقها ثلاثا في مجلس واحد، رغم أنه كان من الجائز أن يعود إليها في السابق، وذلك حفاظا منه على مصلحة الرعية لما رأى كثرة تلاعب الناس بالطلاق فأراد أن يؤدبهم وأن يحافظ على كيان المرأة والأسرة. وأسقط الفاروق، أيضا، حدا من حدود الله تعالى عام المجاعة اعتبارا لأحوال الناس ومصالحهم ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك، وبالتالي لا ينبغي مخالفة أمر ولي الأمر ما دام يصب في مصلحة الناس.
د. عمرو محمد الكمار
باحث دراسات إسلامية – مصر